مكانة العقل في القرآن وأثره في التفسير
الملخص
أنزل الله عز وجل القرآن الكريم هديا للناس يسيرون عليه في كل شؤون حياتهم التشريعية العملية والفكرية، ويسر لهم فهمه والاستنباط منه وكلف النبي صلى الله عليه وسلم بتفسيره حسب ما تقتضي الحاجة. وكان صلى الله عليه وسلم هو المرجع في تفسير القرآن الكريم يبيِّن ما يحتاج إلى بيان ويجيب الصحابة عما يشكل عليهم. وبعد وفاته صلى الله عليه وسلم صار الصحابة يلجؤون إلى القرآن نفسه ليجدوا فيه حكم ما يحتاجون إليه من المستجدات، وإلى ما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم، فما وجدوه أخذوه، وما لم يجدوه لم يكن بإمكانهم إلا أن يعملوا فيه عقولهم ليستنبطوا له حكما ما مستعينين بما في القرآن نفسه ثم بما اثر عن النبي صلى الله عليه وسلم.
في حكم هذه الطريقة في التفسير نشأت مدارس، منها من يجيز ومنها من يمنع, ومنها من يفصل. ولمناقشة هذه المسألة المهمة لا بد من الرجوع إلى أصل الخلاف وهو موقف القرآن من العقل، والعلاقة بينه وبين النقل. لكن حتى في هذه لم يتفق المسلمون على رأي واحد, ولعل الخلاف في هذه هو سبب الخلاف في تلك، انقسم المسلمون في هذه القضية إلى فرق منها من يقول بأن العقل يستقل عن الوحي، ومنها من يقول بأنه لا يستقل وليس له إلا أن يتبع الوحي، ولإثبات مذهبه استدل الفريق الأول بأدلة غاية ما تدل عليه أهمية العقل، واعتباره مصدراً من مصادر المعرفة، دون أي إشارة إلى أنه يستغني عن الوحي، واستدل الفريق الثاني بأدلة غاية ما تدل عليه بيان أهمية الوحي دون أي إشارة إلى أن الوحي يستغني عن العقل.
ومع بالغ تقديري للعلماء الأجلاء الذين قالوا بالقولين إلا أن جمهور المسلمين لا يرون هذا الرأي ولا ذاك، ويجدون العدل والتوسط الاتجاه نحو نقطة التوازن، النقطة التي يتلاقى فيها الوحي مع العقل، ويكمل كل منهما الآخر، فلا العقل يستقل عن الوحي، ولا الوحي يهمل العقل، ولكلٍ منهما ميدان يخوض فيه وفق منهج القرآن وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
فإذا تقرر هذا المبدأ أصبح من السهل إيجاد علاقة معتدلة بين التفسير بالنقل والتفسير بالعقل، وها هنا فرَّق العلماء بين نوعين من التفسير العقلي: واحد مقبول يقوم على النقل أولا ثم على النظر والاجتهاد والاستدلال وفق ضوابط الاجتهاد. وآخر مرفوض يقوم على الهوى والتعصب والانتصار للرأي ولا يستند إلى دليل نقلي أو لغوي أو عقلي، وعليه وجدت أن المنهج الأعدل هو التوسط بين الموقفين، بإجازة الأول ومنع الثاني؛ لأن منع هذا المصدر من التفسير مطلقا غير جائز بل غير ممكن؛ إذ كيف يمكن الاقتصار على المنقول مع تجدد الحياة والحاجة إلى استنباط الأحكام لهذه المستجدات.